الإئتلاف التربوي الفلسطيني - التعليم الفلسطيني: معركة الهوية والعدالة في وجه الهيمنة

التعليم الفلسطيني: معركة الهوية والعدالة في وجه الهيمنة
التعليم الفلسطيني: معركة الهوية والعدالة في وجه الهيمنة

التعليم الفلسطيني: معركة الهوية والعدالة في وجه الهيمنة

تنويه: الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي الائتلاف التربوي الفلسطيني.

التعليم الفلسطيني: معركة الهوية والعدالة في وجه الهيمنة

إعداد ثروت زيد الكيلاني

يُعد التعليم في فلسطين ظاهرة متجذرة في أعماق الوجود، حيث يمتد الاحتلال إلى كل تفصيل من تفاصيل الحياة، فلا يكون مجرد عملية تلقين، بل هو فعل مقاومة ووجود يُجابه محاولات الطمس والتغييب، إنه معركة وعي تتقاطع فيها المعرفة مع الهوية، وتتداخل فيها الذاكرة مع المستقبل، فيغدو كل درس حصناً منيعاً ضد التلاشي، وكل فكرة سلاحاً يذود عن الذات الوطنية، فهو ليس مجرد مسار تعليمي، بل ساحة معركة فكرية وروحية تُصقل فيها هوية الأمة وتُعاد صياغة معالمها في مواجهة التهميش والاستلاب، فيتحول إلى درع صلب يحمي الكيان الوطني ويرفض الانصياع لقوالب الهيمنة الخارجية، ومنارة أمل تضيء دروب التحرر الفكري، تنفض غبار الاستبداد الثقافي، وتُحيي جذوة الصمود في وجه محاولات الاقتلاع والتشويه، إنه النبض الذي لا يخمد تحت وطأة القهر، والشعلة التي لا تنطفئ مهما اشتد ظلام الاحتلال، حيث تتوارث الأجيال مسؤولية حمله كرسالة خالدة تُبقي الذاكرة يقظة، والهوية عصية على التبدد، والوطن حياً في وعي أبنائه.

أولاً: التعليم الفلسطيني- ممارسة وجودية وثورة فكرية في سبيل التحرر

التعليم الفلسطيني فعل وجودي بامتياز، يتجاوز كونه عملية لنقل المعرفة نحو كونه ممارسة للتحرر، حيث تتجسد في كل فضاء تعليمي إرادة الشعوب في تفكيك منظومات القهر وإعادة بناء الوعي بعيون نقدية مستقلة. إنه مجال تتلاقى فيه العقول لتعيد تشكيل الواقع، وتنسج من الأسئلة حوارات تحررية تنأى بالفكر عن دوائر الامتثال، رافضة كل أشكال القسر التي تحاول إعادة تشكيل الهوية وفق مقاييس السيطرة والهيمنة.

في ظل واقع تحاول فيه قوى الهيمنة تطويع أدوات المعرفة، يتحول التعليم إلى منبر للمقاومة، حيث يُعاد تعريف الواقع لا بوصفه قدراً مسلماً به، بل ميداناً للفعل والتغيير. تصبح الفصول الدراسية مختبراً للفكر، ومساحة يستعيد فيها الإنسان حريته عبر وعيه النقدي، حيث ينهض العقل من سباته ليحطم جدران التبعية، ويؤسس لزمن جديد يتناغم مع قيم الكرامة والعدالة.

وحين يكون التاريخ مثقلاً بجراح الاحتلال والاستعمار، يتحول التعليم إلى معركة دفاع عن الذاكرة واللغة، عن الحق في الحلم والتعبير، عن البقاء في وجه محاولات المحو والتشويه. كل فكرة تُطرح، وكل نص يُقرأ، وكل حوار يُعقد، هو لبنة في بناء سياج يحمي الذات من الذوبان في سرديات الهيمنة، ويعيد رسم معالمها وفق منطق الحرية والوعي المستقل. في هذا السياق، يصبح التعليم أكثر من مجرد منظومة مؤسسية؛ إنه مقاومة ناعمة تسير عكس تيار الإقصاء، تستعيد البوصلة، وتؤكد أن تحرير العقل هو الخطوة الأولى نحو تحرير الأرض والإنسان.

لكن هذه الرحلة ليست بمعزل عن قوى الهيمنة التي تسعى إلى احتواء التعليم عبر أنظمة تمويل مشروطة، تُعيد إنتاج علاقات السيطرة بدل أن تؤسس لعدالة معرفية حقيقية. وهنا، تطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة التمويل وارتباطه بالتحكم في الأولويات التعليمية، وحول كيف يمكن بناء نماذج دعم تنطلق من مبدأ تقرير المصير، لا من مقاييس التبعية والارتهان. فكما أن التعليم فضاء للتحرر الفكري، ينبغي أن يكون اقتصاده أيضاً حراً من القيود التي تسلبه معناه التحرري، وتختزله في أرقام ومعادلات تحكمها اعتبارات القوة والمصالح السياسية.

في ظل هذه المعادلة، يصبح التعليم شهادة على قدرة الإنسان على تحدي القهر، حيث لا يعود مجرد حق، بل معركة يخوضها الفكر لاستعادة الذات، لإعادة تعريف الحرية، ولصياغة مستقبل لا يُفرض من الخارج، بل يُولد من رحم الوعي المقاوم. وفي كل خطوة على هذا الدرب، يظل التعليم منارة تنير دروب الكرامة، حيث يصبح الفكر سلاحاً، والكلمة حصناً، والتعلم فعلاً يعيد للإنسان إنسانيته المسلوبة، ويمهد الطريق نحو مستقبل يولد من بين أنقاض الظلم، متحرراً من كل قيود الهيمنة والاستلاب.

ثانياً: الأونروا درع حقوقي وحجر زاوية في بناء الهوية الوطنية الفلسطينية

تتجاوز قضية وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) كونها مجرد مسألة إنسانية أو مالية، فهي في جوهرها قضية حقوقية وقانونية ذات أبعاد سياسية ووجودية تتطلب التزاماً دولياً جاداً لضمان حقوق اللاجئين الفلسطينيين وحمايتهم من التجاوزات. فمنذ تأسيسها، جاءت الأونروا كاستجابة لقرارات دولية تُقر بمسؤولية المجتمع الدولي تجاه اللاجئين الفلسطينيين، مُشكّلة بذلك صمام أمان لضمان الحد الأدنى من الحياة الكريمة لهم عبر تقديم الخدمات الحيوية في مجالات التعليم والصحة والإغاثة، التي لا تُعد مجرد معونات إنسانية، بل هي شريان حياة أساسي في ظل واقع النزوح والاقتلاع القسري. غير أن هذه المؤسسة، التي ترمز إلى استمرار القضية الفلسطينية على الساحة الدولية، باتت تواجه تحديات متزايدة، تتراوح بين الضغوط السياسية التي تسعى إلى تقليص دورها، والأزمات المالية المتكررة التي تُهدد استمراريتها، مما يُنذر بتداعيات خطيرة على ملايين اللاجئين الذين تعتمد حياتهم اليومية على خدماتها.

يتجاوز الدور الحيوي للأونروا مجرد تقديم الخدمات الأساسية، ليصبح ركيزة أساسية في بناء الهوية الوطنية الفلسطينية، حيث يُسهم التعليم والصحة والإغاثة التي تُقدمها في تعزيز الذاكرة الجماعية وترسيخ الكرامة الإنسانية في وجه محاولات التهميش والطمس الثقافي. فالمدارس التي تديرها الأونروا ليست مجرد مؤسسات تعليمية، بل هي ساحات للنضال المعرفي تُحافظ على السردية الوطنية وتُؤسس وعياً جمعياً قادراً على مواجهة تحديات الاحتلال واللجوء. ومع ذلك، فإن التقصير المستمر في الوفاء بالالتزامات المالية من قِبل الدول المانحة يُشكل تهديداً وجودياً لهذا الدور، حيث يؤدي عدم استقرار الدعم المالي إلى تقليص البرامج التعليمية والخدمات الصحية والإغاثية، ما ينعكس سلباً على قدرة اللاجئين على العيش بكرامة، ويُضعف إمكانياتهم في الصمود أمام مشاريع التصفية التي تسعى إلى تحويل قضيتهم إلى مجرد مشكلة إنسانية قابلة للحل عبر إعادة التوطين أو تذويب الهوية الوطنية. وفي هذا السياق، لا بد من إدراك أن استهداف الأونروا مالياً ليس مسألة عَرَضية، بل هو جزء من محاولات إعادة تشكيل الواقع السياسي للصراع الفلسطيني، عبر تفكيك أحد آخر الأعمدة المؤسسية التي تُكرّس الحق الفلسطيني في العودة والاستقلال.

إن تراجع الدعم المالي للأونروا لا يُمثل فقط أزمة تمويلية، بل هو انعكاس لمنظومة دولية تُدار بمعايير مزدوجة، حيث يتم حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في بيئة تعليمية وصحية مستقرة، بينما تُوجَّه الموارد لدعم مشاريع تكرس الاحتلال والهيمنة. ففي ظل غياب التمويل الكافي، تتحول البرامج التعليمية التي تُقدمها الأونروا إلى جبهة صلبة تُدافع عن الذاكرة الثقافية الفلسطينية، وتقف في مواجهة سياسات التجهيل والتشويه التي يسعى الاحتلال إلى فرضها، مما يجعل من كل صفٍ دراسي ساحة مقاومة فكرية تُعزز الهوية الوطنية وتحفظها من التآكل. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى موقف دولي حازم يضع حداً لسياسات الابتزاز المالي التي تُمارَس على الأونروا، ويُلزم الجهات المانحة بمسؤولياتها الأخلاقية والقانونية تجاه مستقبل الأجيال الفلسطينية، حيث لا ينبغي أن يكون حق اللاجئين في التعليم والرعاية الصحية والإغاثة خاضعاً لمساومات سياسية أو توازنات القوى. إن استمرارية الأونروا ليست مجرد ضرورة إنسانية، بل هي التزام دولي تجاه العدالة التاريخية، واستثمار في مستقبل فلسطين، حيث يرتبط الحفاظ على حقوق اللاجئين ارتباطاً وثيقاً بتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وبناء مجتمع فلسطيني قادر على النهوض رغم كل التحديات.

ثالثاً: التعليم الفلسطيني نحو استعادة الذات والحرية

يُعد التعليم الفلسطيني رحلةً ملهمة لاستعادة الذات والحرية في زمن القهر، حيث يتحول كل درس وكل نقاش إلى شهادة على قدرة الإنسان في مقاومة الظلم وبناء مستقبل متجدد. ففي كل حصة تعليمية يُستحضر الصراع الوجودي، وتنبثق من كلمات سقراط التي أعلن فيها أن "الحياة غير المفحوصة لا تستحق العيش" رؤيةً نقدية تشجع على التفكر العميق والتمرد على القيود المفروضة.

إن التعليم هنا ليس مجرد نقل للمعلومات، بل هو جسرٌ نحو التمرد والإبداع، يُعيد صياغة الواقع بنظرة فلسفية تحررية تُقاوم تقاليد القمع. تتحدّث الفصول الدراسية كمسارح حية تُحيي الأمل وتولد طاقات التغيير، حيث تُستخلص القوة من تراث الفلسفة والتاريخ في مواجهة محاولات نسيان الهوية. يرتبط التعليم الفلسطيني ارتباطًا وثيقًا بالهوية الوطنية، فهو يشكّل جسرًا يربط بين الماضي العريق والرؤية المستقبلية المشرقة، مانحًا كل جيل القدرة على استلهام القوة من إرث الأجداد والوقوف بوجه تحديات الاحتلال.

في هذا السياق، يُعتبر التعليم منصة تحريرية تعيد رسم معالم الذات الوطنية، وتُمكّن الشعب من استعادة إنسانيته وترسيخ دعائم دولة قائمة على أسس الكرامة والحرية. إنه مساحة فكرية تُحفّز على التساؤل المستمر، حيث يُمكن للطالب أن يُعيد النظر في مفاهيمه ويُعيد بناء ذاته على أسس الحرية والعدالة. هكذا، يُصبح التعليم الفلسطيني ليس فقط وسيلة لنقل المعرفة، بل هو معركة فكرية وروحية تُعيد تشكيل الوعي الجماعي وتدفع نحو مستقبل تتوّج فيه الأمة بقيم الحرية والكرامة.

وختاماً، إن التعليم الفلسطيني، في جوهره، مسار نضال مستمر ضد محاولات الطمس والتشويه. إنه رحلة نحو التحرر الفكري والوجود الوطني، تتجسد في كل تجربة تعليمية وعملية فكرية تسهم في بناء الهوية الوطنية، وفي كل حصة دراسية، يُعيد الفلسطينيون صياغة مستقبلهم، ويثبتون من خلال الوعي والتعليم أن التحدي ضد القهر ليس مجرد ردة فعل، بل هو فعل حضاري يعزز الكرامة والحرية. التعليم، في سياقه الفلسطيني، هو أداة للتحرير وبناء الذاكرة الوطنية، ويسهم في تنمية الفرد والمجتمع ليظل الأمل مشرقًا حتى في أعتى الظلامات. إن تعزيز نظام تعليمي مستدام وحر لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التزام حقيقي بالعدالة التعليمية، وضمان استمرارية الدعم العالمي للمؤسسات التعليمية الفلسطينية كالأونروا، التي تشكل حجر الزاوية في الحفاظ على الهوية الفلسطينية، وتنمية قدرات الأجيال على مواجهة تحديات المستقبل بشجاعة.

العنوان

رام الله ، فلسطين

البريد الإلكتروني

pec@pal-pec.ps

رقم الهاتف

West Bank +97022965610, Gaza +97082826313