من أجل كرامة معرفية وسيادة وطنية: ندوة حوارية تبحث مجانية التعليم الجامعي في السياق الفلسطيني
رام الله – 28 تموز 2025: نظّم الائتلاف التربوي الفلسطيني، عبر مجموعاته المتخصصة في السياسات والفكر التربوي، وأولياء الأمور، والشباب التربوي، ندوةً حوارية افتراضية بعنوان: "مجانية التعليم الجامعي: بين الحق والسيادة"، مساء الإثنين 28 تموز 2025، بمشاركة أكثر من 55 خبيرًا تربويًا وحقوقيًا وأكاديميًا وناشطًا من فلسطين والمنطقة العربية.
جاء اللقاء في ظل تعاظم التحديات التي تواجه الطلبة الفلسطينيين نتيجة ارتفاع كلفة التعليم الجامعي، وتراجع دوره كحق أساسي لصالح تحويله إلى سلعة تخضع لمنطق السوق، وهو ما دفع المشاركين إلى مناقشة مجانية التعليم الجامعي من زوايا حقوقية ووطنية واقتصادية متعددة.
افتتحت الجلسة الأستاذة ميس أبو حاشية، منسقة مجموعة الشباب التربوي، مؤكدةً أن التعليم المجاني ليس مجرد مطلب أكاديمي، بل حق إنساني ورافعة من روافع السيادة الوطنية، خصوصًا في واقع الاحتلال والاستعمار القائم.
الإطار الحقوقي والوطني للمجانية
استعرض الدكتور شعوان جبارين، مدير عام مؤسسة الحق ونائب رئيس الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، الأبعاد القانونية والحقوقية لمجانية التعليم العالي، منطلقًا من الالتزامات الدولية المترتبة على دولة فلسطين بصفتها طرفًا في اتفاقيات حقوق الإنسان.
وأشار إلى أن الحق في التعليم، وخاصة التعليم العالي، هو حقٌ غير قابل للتجزئة، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بكرامة الإنسان وتمكينه، ولا يجوز أن يُختزل في منطق السوق أو يُترك لعوامل العرض والطلب. وأكد أن غياب نصوص قانونية واضحة في التشريعات الفلسطينية يؤسس لثغرات خطيرة في ضمان هذا الحق، داعيًا إلى مواءمة القوانين المحلية مع الاتفاقيات الدولية التي تُقرّ مجانية التعليم كأساس لا يجوز التنازل عنه.
كما شدّد جبارين على أهمية بلورة سياسة وطنية مُلزمة قانونيًا تضمن حق الوصول العادل إلى التعليم، وتُفعّل أدوات الرقابة والمساءلة تجاه الجهات التنفيذية، معتبرًا أن توحيد المرجعيات القانونية وتحديد المسؤوليات ضرورة ملحّة، إلى جانب بناء خطاب سيادي يربط التعليم بالتحرر من الاحتلال والتبعية.
التعليم الجامعي بوصفه فعلًا تحرريًا
قدّم الأستاذ ثروت زيد الكيلاني، منسق مجموعة السياسات والفكر التربوي، مداخلة تناول فيها التعليم الجامعي ضمن سياق النضال من أجل التحرر والانعتاق من الاستعمار البنيوي، مؤكدًا أن التعليم العالي يجب أن يُفهم بوصفه حقًا شعبيًا وجزءًا من المشروع الوطني، لا خاضعًا لمنطق السوق.
وتناول زيد دور المجتمع المدني الفلسطيني في الدفاع عن الحق في التعليم العالي، مشخّصاً محدودية دوره الحالي في تحويل التعليم الجامعي إلى قضية نضال شعبي، وناقداً غلبة الطابع الإغاثي على تدخلاته. كما شدّد على ضرورة بناء خطاب مجتمعي يربط التعليم بالكرامة والسيادة، داعياً إلى مبادرات مدنية-طلابية تضغط باتجاه مجانية التعليم ومساءلة السياسات الحكومية. واعتبر أن النهوض بهذا الدور يتطلب رؤية تحررية، تعيد للمعرفة بعدها الوطني، وتجعل من التعليم العالي ساحة فعلٍ مدنيٍّ مقاوم، لا سلعة خاضعة لمنطق السوق.
نحو سياسات تمويل عادلة ومستقلة
أما الدكتور نصر عبد الكريم، الخبير الاقتصادي وأستاذ العلوم الاقتصادية، فقد تناول أزمة تمويل التعليم الجامعي في السياق الفلسطيني، موضحًا أن الاعتماد المتزايد على الرسوم المرتفعة وسياسات الخصخصة أدى إلى تهميش شرائح واسعة من الشباب الفلسطيني، وحوّل التعليم إلى عبء اقتصادي لا يستطيع تحمّله كثيرون.
قدّم عبد الكريم مقاربة تحليلية مبنية على العدالة الاجتماعية، داعيًا إلى تبني رؤية وطنية تمويلية بديلة تضمن استدامة الموارد وعدالتها دون الإخلال بجودة التعليم واستقلاليته. واقترح نموذجًا ضريبيًا تضامنيًا، يشمل فرض ضرائب رمزية مخصصة للتعليم العالي، بما يوزّع المسؤولية المالية بشكل عادل على مكونات المجتمع.
كما دعا إلى إصلاح نظام المنح والقروض الجامعية بما يراعي الفئات المهمشة ويمنع تفاقم الفجوة الطبقية في التعليم، مؤكدًا على ضرورة تعزيز التكامل بين السياسات المالية والتعليمية، وربط الإنفاق العام بمؤشرات الأداء والعدالة. وختم مداخلته بالتأكيد على أن استقلال الجامعات وحمايتها من الضغوط الاقتصادية والسياسية شرط أساسي لضمان دورها المعرفي والنهضوي.
نقاش تفاعلي وتوصيات استراتيجية
قدّم الأستاذ محمد عاصي، منسق مجموعة أولياء الأمور، مداخلة مؤثرة حول معاناة الأسر الفلسطينية في تغطية تكاليف التعليم الجامعي، قبل أن ييسّر النقاش بين الحضور والمتحدثين، حيث عبّر المشاركون عن قلقهم من تغوّل الطابع التجاري على التعليم، وطالبوا بسياسات بديلة تُعيد الاعتبار للتعليم كحق ومجال للنهضة الوطنية.
وفي ختام اللقاء، قدّمت الأستاذة عبير سمودي توصيات الندوة التي جاءت شاملة للأبعاد القانونية والاقتصادية والمجتمعية، دعت إلى تطوير خطاب تربوي تحرري يعيد للتعليم الجامعي مكانته كمساحة للفكر والمقاومة، واعتماد سياسات تمويل عادلة ومستقلة، وتوحيد المرجعيات القانونية ضمن رؤية وطنية تضمن الإنصاف وعدالة الوصول.
سرد ختامي .
لم يكن هذا اللقاء مجرّد حلقة نقاش، بل مساحة لاستعادة المعنى العميق للتعليم الجامعي في فلسطين: ليس كامتياز يُمنح، ولا كسلعة تُباع، بل كحق وطني مرتبط بكرامة الإنسان وحرية المجتمع. في كلمات المتحدثين، وداخل مداخلات المشاركين، كانت تتردد روح جامعة لا تكتفي بتعليم المعلومة، بل تُنتج وعيًا وسيادة. لقد انتهى اللقاء، لكن الرسائل التي حملها لا تزال تتردد: من أجل جامعة لا تُقصي فقيرًا، ومن أجل مجتمع يرى في المعرفة سبيلًا للتحرر، لا سلعة على رفّ السوق.