التعليم في مواجهة الإبادة: ندوة وطنية تزرع الوعي وسط الركام وتطلق توصيات للتعافي التربوي
رام الله – 14 تشرين الأول/أكتوبر 2025
في قاعة امتلأت بأصوات القلق والأمل، جلس الحاضرون يستمعون إلى كلماتٍ تشبه النوافذ التي تُطلّ على مشهدٍ فلسطينيّ مثقلٍ بالدمار، لكنه لا يزال متمسكًا بالكرامة والعلم. هكذا افتُتحت ندوة “التعليم في مواجهة الإبادة” التي نظمها الائتلاف التربوي الفلسطيني بالتعاون مع مجتمع النوع الاجتماعي، لتكون مساحة تفكير وصرخة وطنية في وجه ما يصفه المشاركون بأنه “أكبر تهديد وجودي للتعليم الفلسطيني منذ النكبة”.
لم تكن الندوة مجرد لقاءٍ أكاديميّ، بل شهادةً جماعية على جرحٍ مفتوح. تحدّث الأكاديميون والمعلمون والناشطون من الضفة وغزة عن مدارس سقطت جدرانها فوق المقاعد، وعن معلمين يدرّسون من بين الخيام، وعن أطفالٍ يكتبون أحلامهم على الركام. ورغم كل شيء، كان الحاضرون متفقين على أن التعليم في فلسطين لا يزال جبهة مقاومة، وسلاحًا لا يُكسر، وأن استمرار الدرس في وجه الدمار هو أبلغ أشكال البقاء.
وسط هذا النقاش الحاد والعاطفي، أكدت الكلمات الافتتاحية أن المنظومة التعليمية الفلسطينية تقف اليوم بين البقاء والانهيار، وأن التعافي الحقيقي يحتاج إلى إرادة وطنية مستقلة، وتمويل مستدام، وتكاتفٍ مجتمعيّ يُعيد للتعليم مكانته كأداة للتحرر والعدالة والكرامة.
ثم جاء الدور على ميس أبو حاشية، منسقة مجتمع الشباب في الائتلاف التربوي الفلسطيني، لتقدّم التوصيات الوطنية الشاملة التي خرجت بها الندوة، في مشهدٍ وصفه أحد الحاضرين بأنه “خارطة طريق للتعافي التربوي من تحت الرماد”.
تنوّعت التوصيات بين إعادة بناء المدارس المتضررة واستيعاب الطلبة والمعلمين النازحين، وإعداد خطة وطنية شاملة للتعافي التربوي تُدرج الدعم النفسي والاجتماعي كجزءٍ أساسي من المناهج. كما دعت الندوة إلى وضع خطة استدامة مالية وطنية تُحصّن التعليم من أزمات المقاصة والتمويل السياسي، وتبحث عن مصادر تمويل داخلية مستقلة تضمن استمرار العملية التعليمية بعيدًا عن الشروط والابتزازات.
وفي محور آخر، ركزت التوصيات على حماية استقلال المناهج الفلسطينية من محاولات التشويه والهيمنة، ورفض أي تدخلات تسعى إلى إفراغها من مضمونها الوطني والإنساني. ودعت المؤسسات البحثية والأكاديمية إلى توثيق الحملات الممنهجة ضد التعليم الفلسطيني، فيما طالبت وسائل الإعلام بدعم السردية التعليمية الوطنية بوصفها ركيزة في مقاومة الإبادة الثقافية.
أما قضية المعلمين فحضرت بقوة، إذ طالبت الندوة بتوفير دعم نفسي ومهني للعاملين في مناطق النزوح والمخيمات، وتكثيف برامج تدريبهم وتأهيلهم ليكونوا عماد التعافي التربوي في مرحلة ما بعد الحرب.
ولم تغب وكالة الأونروا عن النقاش، حيث دعا المشاركون الأمم المتحدة والدول المانحة إلى وقف تقليص تمويلها وضمان استقرار برامجها التعليمية، مؤكدين أن استمرار التعليم في المخيمات هو خط الدفاع الأخير عن حق اللاجئين في العودة والكرامة.
في الجزء القانوني من الندوة، أُعلن عن نية إعداد ملف قانوني متكامل حول “إبادة التعليم في فلسطين” لعرضه أمام محكمة العدل الدولية، وتوثيق الجرائم التي ارتكبها الاحتلال بحق الطلبة والمعلمين والمدارس باعتبارها انتهاكات ترقى إلى جريمة إبادة جماعية ثقافية وتعليمية.
أما في الجلسة الختامية، فقد تركز النقاش على المناطق المهمشة كمسافر يطّا والقدس والأغوار الشمالية، باعتبارها مساحات تتعرض لمحاولات اقتلاعٍ صامتة، وأوصت الندوة بتكثيف النشاطات التعليمية والمجتمعية فيها، وإنشاء مرصد وطني للتعليم في ظل النزاعات يوثق الانتهاكات ويحلل آثارها على الأجيال الفلسطينية.
وقبل أن تُسدل الستارة على النقاش، وقفت فاطمة عبده، منسقة مجتمع النوع الاجتماعي وعضو الائتلاف التربوي الفلسطيني، لتقول بصوتٍ حازم:
> “حماية التعليم هي حماية للذاكرة الوطنية، للحق في الوجود، ولإنسان هذا الوطن.”
وأضافت أن الرصد والتوثيق ليسا عملًا تقنيًا فقط، بل موقف وطني في وجه النسيان، داعية كل الشركاء إلى تحويل توصيات الندوة إلى خطط عمل واقعية تُترجم الوعي إلى فعل، وتُعيد للتعليم دوره كمحرّكٍ للكرامة والأمل والحرية.
وهكذا اختتمت الندوة، وقد غادر المشاركون القاعة محمّلين بالشعور ذاته:
رغم الدمار، ما زالت فلسطين تكتب دروسها بالدم والطبشور.